مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

لحظة تمرد

الجمهورية و«الأسبوعى».. عشق لا يموت..!! (2-2)

 

«الجمهورية» منذ تأسيسها 7 ديسمبر 1953 باسم الزعيم جمال عبدالناصر كانت صوت الشعب وثورته على كافة المستويات.. لم تجد ثورة يوليو فى الصحف القائمة نفسها فأصدرت «الجمهورية» بعد حوالى 4 شهور من قيامها وضمت إليها قمم العمل الصحفى والثقافى واستمر النهج على مدى تاريخها وفى ظاهرة نادرة تجد التنوع الثقافى والسياسى والفكرى من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار لتشكل جامعة وليست مدرسة للصحافة والوطنية، لا أريد أن أنسى احداً.. القائمة تتجاوز عشرات الآلاف لكن منهم جمال عبدالناصر وأنور السادات وصلاح سالم وطه حسين وكامل الشناوى ومأمون الشناوى وعبدالرحمن الخميسى وفتحى غانم ومصطفى بهجت بدوى وسعد وهبة ويوسف إدريس ورشدى صالح وحافظ محمود وكامل زهيرى وموسى صبرى وطوغان وقائمة لا تنتهى حتى الآن.

حين أسير فى طرقاتها أتحسس موضع اقدامى لأتجنب السير فوق مكان سار فيه أحد عظماء «الجمهورية».. أحدثهم ويحدثونني، أتعلم منهم وأشكوا إليهم، يعنفوننى أحيانا، ويطبطبون على كتفى وينصحون فى أحيان أخرى يكفى «الجمهورية» أنها منذ انطلاقها كانت كثيراً ما تكون صوت الناس، وتأثيرا لا محدود فى الحياة الثقافية والرياضية والتحقيقات ومدرسة للرأى من مختلف الاتجاهات التى أثارت حفيظة الصحف الأقدم منها بعشرات السنين، وبمقاييس التوزيع التى يفهم لغتها البعض بعيدا عن التأثير الكبير، وضع  الكاتب الكبير الراحل محسن محمد المفتاح فى الكوناكت فى احدى مراحلها فى منتصف السبعينيات لينطلق بالتوزيع الى الافق الشعبى ويأتى بعده الأستاذ محفوظ الأنصارى ليصل إلى أفق كسر المليون نسخة بعدة مئات من الآلاف كما تؤكد أرقام التوزيع للعدد الأسبوعى  وحول الــ 700 ألف للعدد اليومي، وهذه الحقيقة وصلت لها كباحث وليس محبا وعاشقا، كدارس وليس كمتحيز.

منذ اللحظة الأولى وطوال الستينيات كانت مدرسة صحفية متميزة ورغم حداثتها وقفت منافسة بل وشامخة أمام جرائد ومجلات عتيقة وأصبحت بحق منارة ثقافية وفكرية حقيقية توازت بل كانت عنصرا فاعلا ومؤثرا فى النهضة الثقافية والأدبيية فى الستينيات وسارت إلى جوارها الشقيقة الصغرى جريدة المساء، وتخرج من رحمهما كل أدباء جيل الستينيات الأدبي.

> ومن بيت العائلة الكبير الذى يضم «الجمهورية» وباقى إصدارات دار التحرير جاءت مرحلة الخروج من المبنى العتيق على يد الأستاذ سمير رجب ليشيد المبنى الضخم على هيئة كتاب مفتوح، وخاض فى سبيل ذلك الكثير من المعارك، ولولاه ما أقيم هذا المبني.

> فيها كانت رائحة الحبر والورق هى العطر الرسمى لمكتبى وملابسى وأحب لى من أغلى البرفانات.. عقارب الساعة فى مبنى «الجمهورية» العريق لم تكن مجرد مؤشرات ودلالات زمنية، بل كانت تتسابق وتتسارع  مع دقات قلبي.. مع اقتراب موعد «تسليم الصفحة» الأولي، وهى اللحظة التى تتجمد فيها الأنفاس وتتركز فيها العيون على أدق التفاصيل.. وفى نفس الوقت تصرخ فينا المطبعة لتنطلق سيورها  مستجيبة لسارينة القطارات الواقفة فى محطة مصر قبل انطلاقها إلى الصعيد والاسكندرية والوجه البحرى وكلاكسات سيارات التوزيع التى تسد شارع زكريا أحمد وشارع رمسيس وصيحات مئات الباعة الذين ينطلقون بها إلى ميادين وشوارع القاهرة ومقاهيها وأتوبيساتها وترامها.. لا أزال أتذكر تلك الأجواء بكل وضوح، كأنها تحدث الآن.. مازلت أذكر تلهفنا على احتضان أولى النسخ المطبوعة «الدشت» التى تستعد فيها المطبعة لطباعة النسخ فى أزهى صورة التى تنزل السوق للقراء العشاق المتلهفين، نحتضن ما فيها من أحبار سائلة على الصور والكلام.. كانت لكل منا مثل لحظة استقباله لطفله الأول.

> «الجمهورية»  هى العشق والمعشوق والرحاب المقدسة وقدس الأقداس.. كنا ندخل فى محرابها من العاشرة صباحا ولا نغادرها إلى بعد منتصف الليل بساعات تصل أحيانا إلى فجر صباح الخميس، وفى الأزمات الكبرى كنا قبيلة.. أذكر حرب الخليج الثانية حين علم أعضاء الأسبوعى بالخبر حتى جاء الجميع مهرولا بعد دقائق ليمتلئ الديسك بالجميع.. هذا يقطع تيكر الوكالات الاجنبية، وهذا يتابع الإذاعات الأجنبية وذاك يقلب الفضائيات الدولية حتى طبعنا أكثر من 5طبعات لنتفوق على الصحف المنافسة.

كانت سنوات عملى التى امتدت إلى نحو 40 عاما فى رحاب هذه المؤسسة الصحفية العريقة، «جريدة الجمهورية»، فصلاً ذهبياً فى كتاب حياتي.. لم تكن مجرد وظيفة، بل كانت محراب عباده وساحة عشق ومدرسة لتعلم الوطنية، ودقة الملاحظة، وسرعة البديهة فى التعامل مع الخبر العاجل وكافة فنون العمل الصحفي.. كم قضينا ليالى طويلة بلا نوم، نراجع كل حرف ونتحقق من كل مصدر، ونشرب أكواباً لا حصر لها من الشاى و القهوة التى لا تُحصي، فقط لنضمن أن القارئ سيجد فى صباح اليوم التالى معلومة دقيقة ومكتملة وكل ذلك فى مناخ لا يخلو من الكوميديا والسخرية.

لم تكن «الجمهورية» مجرد مبني، بل هى تجمُّع لأرواح وشخصيات… أحتفظ فى ذاكرتى بصور لزملاء عمل كانوا بمثابة أسرة ثانية لي.. تعلمت أن «الخبر ليس ما تراه، بل ما تثبته».. وأتذكر كيف كنا نتشارك فى رسم أحلامنا وطموحاتنا وتحقيقاتنا وصفحاتنا فوق صفحات الجريدة بالاخراج الفنى لـ  محمود أمين وأحمد بيومى وسيد عبدالحفيظ، وحسن عثمان وعلى الصفتى الذى جذبه التحرير الصحفي.. مع رسوم محيى أحمد على وسمير وفرماوى وفرج وطوغان.

… كانت هناك دائماً روح تحدٍ ومنافسة شريفة، تدفعنا لتقديم الأفضل، كانت الصحيفة المطبوعة هى السلطة الرابعة بكل ما تحمله الكلمة من معني، وشرف.

الذكريات ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل هى تذكير دائم بـ «ميثاق المهنة». وللجيل الجديد من الصحفيين أقول: استمروا فى طرح الأسئلة، كونوا مصدر ثقة، وتذكروا دائماً أن مسئولية الكلمة المطبوعة ثقيلة وعظيمة.. باختصار الانتماء لـ «الجمهورية» كان وسيظل وساماً نضعه على صدورنا.